فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فهل الحياة الدنيا كالماء؟ لا، ولكن قصة الحياة كلها، تشبه القصة التي يضربها الحق كمثل، الماء حين ينزل يختلط بالأرض، وبعد ذلك تهتز، فتعطى نباتا، والنبات ينتج الزهر الجميل، وبعد ذلك ينتهي إلى هشيم، هكذا هي الدنيا في زخرفتها؛ فالبداية مزهرة، فيها نضارة وخضرة وبهجة، ونهاية مؤلمة ومدمرة.
إذن فالحق سبحانه ينقل لنا معنى الحياة الدنيا ويشبهها بالأزهار والنبات ونهايته أن يصبح هشيما تذروه الرياح، وهو ما يقوله في موضع آخر من القرآن الكريم.
{فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذالِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24].
وعندما نمعن النظر في قوله الحق: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَاذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله وَلَاكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117].
نجد في هذه الآية مشبها ومشبها به، المُشَبَّه هم القوم الذي ينفقون أموالهم بغير نية الله، أي كافرون بالله، والمُشَبَّه به: هو الزرع الذي أصابته الريح وفيها الصر، والنتيجة أنه لا جدوى هنا، ولا هناك.
ولماذا تصيب الريح حرث قوم ظلموا أنفسهم، وهل لا تصيب الريح حرث قوم لم يظلموا أنفسهم؟
إن الذين ظلموا أنفسهم تنزل بهم هذه الكارثة كعقوبة، مثلهم في ذلك مثل أصحاب الجنة الذين يقول فيهم الحق سبحانه: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 17- 20].
لقد جزاهم الله بظلمهم، ولكن ألا نرى رجلا لم يظلم نفسه وتصيب زراعته كارثة؟ إننا نرى ذلك في الحياة، والرجل الذي لم يظلم نفسه وتصيب زراعته كارثة، ويصبر على كارثته، يأخذ الجزاء والثواب من الله، ولعل الله قد أهلك بها مالا كانت الغفلة قد أدخلته في ماله من طريق غير مشروع.
هكذا تكون الكارثة بالنسبة للمؤمن لها ثواب وجزاء، أو تكون تطهيرا للمال. أما الذي ينفق على غير نية الله وهو كافر، فلا ثواب له.
ويذيل الحق الآية بقوله: {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله وَلَاكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} فهو سبحانه لم يظلم الكافرين حين جعل نفقتهم بدون جدوى ولا حصيلة لها عنده، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم، لأنهم أنفقوا النفقة على غير هيئة القبول، وهم الذين صنعوا ذلك عندما ظلموا أنفسهم بالكفر فَحَبطت أعمالهم، وتلك هي عدالة الحق سبحانه وتعالى: ويقول الحق من بعد ذلك: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ}. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)}.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا} قال: مثل نفقة الكافر في الدنيا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في الآية يقول: مثل ما ينفق المشركون ولا يتقبل منهم، كمثل هذا الزرع إذا زرعه القوم الظالمون. فأصابته ريح فيها صر فأهلكته، فكذلك أنفقوا فأهلكهم شركهم.
وأخرج سعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس {فيها صر} قال: برد شديد.
أخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس. أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله: {فيها صر} قال برد. قال: فهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت قول نابغة بني ذبيان:
لا يبردون إذا ما الأرض للها ** أصر الشتاء من الأمحال كالأدم

.تفسير الآيات (118- 119):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)}

.مناسبة الآيتين لما قبلهما:

قال البقاعي:
ولما كان الجمال بالمال لاسيما مع الإنفاق من أعظم المرغبات في الموالاة، وكانت هذه الآية قد صيرت جميلة قبيحًا وبَذوله شحيحًا؛ قال سبحانه وتعالى- مكررًا التنبيه على مكر ذوي الأموال والجمال الذين يريدون إيقاع الفتنة بينهم من اليهود والمنافقين ليضمحل أمرهم وتزول شوكتهم: {يا أيها الذين آمنوا} أي إيمانًا صحيحًا مصدقًا ادعاؤه بالعمل الصالح الذي من أعظمه الحب في الله والبغض في الله {لا تتخذوا بطانة} أي من تباطنونهم بأسراركم وتختصونهم بالمودة والصفاء ومبادلة المال والوفاء {من دونكم} أي ليسوا منكم أيها المؤمنون، وعبر بذلك إعلامًا بأنهم يهضمون أنفسهم وينزلونها عن علّي درجتها بموادتهم.
ثم وصفهم تعليلًا للنهي بقوله: {لا يألونكم خبالًا} أي يقصرون بكم من جهة الفساد، ثم بين ذلك بقوله على سبيل التعليل أيضا: {ودّوا ما عنتم} أي تمنوا مشقتكم.
ولما كان هذا قد يخفى بيَّنه بقوله معللًا: {قد بدت البغضاء من أفواههم} أي هي بينة في حد ذاتها مع اجتهادهم في إخفائها، لأن الإنسان إذا امتلأ من شيء غلبه بفيضه، ولكنكم لحسن ظنكم وصفاء نياتكم لا تتأملونها فتأملوا.
ثم أخبر عن علمه سبحانه قطعًا وعلم الفطن من عباده بالقياس ظنًا بقوله: {وما تخفي صدورهم أكبر} مما ظهر على سبيل الغلبة.
ثم استأنف على طريق الإلهاب والتهييج قوله: {قد بيَّنا} أي بما لنا من العظمة {لكم} أي بهذه الجمل {الآيات} أي الدالات على سعادة الدارين ومعرفة الشقي والسعيد والمخالف والمؤالف.
وزادهم إلهابًا بقوله: {إن كنتم} أي جبلة وطبعًا {تعقلون} ثم استانف الأخبار عن ملخص حالهم معهم فقال منبهًا أو مبدلا إلهاء من همزة الإنكار: {ها أنتم أولاء} أي المؤمنون المسلمون المستسلمون {تحبونهم} أي لاغتراركم بإقرارهم بالإيمان لصفاء بواطنكم {ولا} أي والحال أنهم لا {يحبونكم} لمخالفتهم لكم في الدين، فإنهم كاذبون في إقرارهم بالإيمان {وتؤمنون} أي أنتم {بالكتاب كله} أي ويكفرون هم به كله، إما بالقصد الأول وإما بالإيمان بالبعض والكفر بالبعض {وإذا لقوكم قالوا} أي لكم {آمنا} لتغتروا بهم {وإذا خلوا} أي منكم، وصوّر شدة حنقهم بقوله: {عضّوا عليكم} لما يرون من ائتلافكم وحسن أحوالكم {الأنامل من الغيظ} أي المفرط منكم، ومن جعل الهاء في {ها أنتم} بدلًا عن همزة الاستفهام فالمراد عنده: أأنتم يا هؤلاء القرباء مني تحبونهم والحال أنهم على ما هم عليه من منابذتكم وأنتم على ما أنتم عليه من الفطنة بصفاء الأفكار وعليّ الآراء بقبولكم الحق كله، لأن المؤمن كيس فطن؛ فهو استفهام- وإن كان من وادي التوبيخ- المراد به التنبيه والتهييج المنقل من سافل الدركات إلى عالي الدرجات- والله الموفق.
ولما كانوا كأنهم قالوا: فما نفعل؟ قال مخاطبًا للرأس المسموع الأمر المجاب الدعاء: {قل} أي لهم {موتوا بغيظكم} أي ازدراء بهم ودعاء عليهم بدوام الغيظ من القهر وزيادته حتى يميتهم.
ولما كانوا يحلفون على نفي هذا ليرضوهم قال تعالى مؤكدًا لما أخبر به لئلا يظن أنه أريد به غير الحقيقة: {إن الله} أي الجامع لصفات الكامل {عليم بذات الصدور} أي فلا تظنوا أنه أراد بعض ما يتجوز بالغيظ عنه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عاشور:

الآن إذ كشف الله دخائل مَنْ حولَ المسلمين من أهل الكتاب، أتمّ كشف، جاء موقع التحذير من فريق منهم، والتحذير من الاغترار بهم، والنهي عن الإلقاء إليهم بالمودة، وهؤلاء هم المنافقون، للإخبار عنهم بقوله: {وإذا لقوكم قالوا آمنا} [آل عمران: 119] إلخ.
وأكثرهم من اليهود، دون الذين كانوا مشركين من الأوس والخزرج.
وهذا موقع الاستنتاج في صناعة الخطابة بعد ذكر التمهيدات والإقناعات.
وحقّه الاستئناف الابتدائي كما هنا. اهـ.

.قال الفخر:

اختلفوا في أن الذين نهى الله المؤمنين عن مخالطتهم من هم؟ على أقوال:
الأول: أنهم هم اليهود وذلك لأن المسلمين كانوا يشاورونهم في أمورهم ويؤانسونهم لما كان بينهم من الرضاع والحلف ظنًا منهم أنهم وإن خالفوهم في الدين فهم ينصحون لهم في أسباب المعاش فنهاهم الله تعالى بهذه الآية عنه، وحجة أصحاب هذا القول أن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مخاطبة مع اليهود فتكون هذه الآية أيضا كذلك.
الثاني: أنهم هم المنافقون، وذلك لأن المؤمنين كانوا يغترون بظاهر أقوال المنافقين ويظنون أنهم صادقون فيفشون إليهم الأسرار ويطلعونهم على الأحوال الخفية، فالله تعالى منعهم عن ذلك، وحجة أصحاب هذا القول أن ما بعد هذه الآية يدل على ذلك وهو قوله: {وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} [آل عمران: 119] ومعلوم أن هذا لا يليق باليهود بل هو صفة المنافقين، ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة: {وَإِذَا لَقُواْ الذين ءَامَنُواْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهزِؤن} [البقرة: 14].
الثالث: المراد به جميع أصناف الكفار، والدليل عليه قوله تعالى: {بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ} فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من غير المؤمنين فيكون ذلك نهيًا عن جميع الكفار وقال تعالى: {يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [الممتحنة: 1] ومما يؤكد ذلك ما روي أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: هاهنا رجل من أهل الحيرة نصراني لا يعرف أقوى حفظًا ولا أحسن خطًا منه، فإن رأيت أن تتخذه كاتبًا، فامتنع عمر من ذلك وقال: إذن اتخذت بطانة من غير المؤمنين، فقد جعل عمر رضي الله عنه هذه الآية دليلًا على النهي عن اتخاذ بطانة، وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص بالمنافقين فهذا لا يمنع عموم أول الآية، فإنه ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا كان عامًا وآخرها إذا كان خاصًا لم يكن خصوص آخر الآية مانعًا من عموم أولها. اهـ.
فصل:
قال الفخر:
قال أبو حاتم عن الأصمعي: بطن فلان بفلان يبطن به بطونًا وبطانة، إذا كان خاصًا به داخلًا في أمره، فالبطانة مصدر يسمى به الواحد والجمع، وبطانة الرجل خاصته الذين يبطنون أمره وأصله من البطن خلاف الظهر، ومنه بطانة الثوب خلاف ظهارته، والحاصل أن الذي يخصه الإنسان بمزيد التقريب يسمى بطانة لأنه بمنزلة ما يلي بطنه في شدة القرب منه. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {مّن دُونِكُمْ}:

.قال الفخر:

من دونكم أي من دون المسلمين ومن غير أهل ملتكم ولفظ {مّن دُونِكُمْ} يحسن حمله على هذا الوجه كما يقول الرجل: قد أحسنتم إلينا وأنعمتم علينا، وهو يريد أحسنتم إلى إخواننا، وقال تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقّ} [آل عمران: 21] أي آباؤهم فعلوا ذلك. اهـ.

.قال القرطبي:

نهى الله عزّ وجلّ المؤمنين بهذه الآية أن يَتَّخِذوا من الكفار واليهود وأهل الأهْوَاء دُخَلاءَ ووُلَجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم.
ويُقال: كل من كان على خلاف مَذْهَبك ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه؛ قال الشاعر:
عن الْمَرءِ لاَ تَسْألْ وَسَلْ عن قَرِينهِ ** فَكلُّ قَرِينٍ بِالمُقارن يَقْتَدِي

وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» وروي عن ابن مسعود أنه قال: اعتبروا الناس بإخوانهم. اهـ.

.قال الفخر:

في قوله: {مّن دُونِكُمْ} احتمالان:
أحدهما: أن يكون متعلقًا بقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ} أي: لا تتخذوا من دونكم بطانة.
والثاني: أن يجعل وصفًا للبطانة والتقدير: بطانة كائنات من دونكم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مِّن دُونِكُمْ} أي من سواكم.
قال الفرّاء: {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} أي سِوى ذلك.
وقيل: {مِن دُونِكم} يعني في السير وحسن المذهب.
ومعنى {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} لا يقصِّرون فيما فيه الفسادُ عليكم. اهـ.

.قال الفخر:

قيل {مِنْ} زائدة، وقيل للنبيّين: لا تتخذوا بطانة من دون أهل ملتكم. اهـ.

.قال القرطبي:

بيّن تعالى المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} يقول فسادًا.
يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة، على ما يأتي بيانه.
وروي عن أبي أمَامَة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: في قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} قال: «هم الخوارج» ورُوي أن أبا موسى الأشعري استكتب ذِمّيًا فكتب إليه عمر يعنِّفه وتلا عليه هذه الآية.
وقدِم أبو موسى الأشعري على عمر رضي الله عنهما بحساب فرفعه إلى عمر فأعجبه، وجاء عمر كتابٌ فقال لأبي موسى: أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس؟ فقال: أنه لا يدخل المسجد.
فقال: لِم أجُنُبٌ هو؟ قال: أنه نصراني؛ فانتهره وقال: لا تُدْنِهم وقد أقصاهم الله، ولا تُكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تَأْمَنهم وقد خوّنهم الله.
وعن عمر رضي الله عنه قال: لا تستعملوا أهل الكتاب إنهم يستحلون الرُّشا، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى.
وقيل لعمر رضي الله عنه: إن هاهنا رجلًا من نصارى الحِيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخذ بِطانة من دون المؤمنين.
فلا يجوز استكتاب أهل الذِّمة، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم.
قلت: وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبةً وأمناء وتَسوَّدُوا بذلك عند الجَهَلة الأغْبِياء من الوُلاة والأمراء.
روى البخاريّ عن أبي سعيدٍ الخدرِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله مِن نبيّ ولا استخلف مِن خليفةٍ إلاَّ كانت له بِطانتانِ بِطانة تأمره بالمعروف وتحضُّه عليه وبِطانة تأمره بالشر وتحضّه عليه فالمعصوم من عَصَمَ الله تعالى».
وروى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تستضِيئوا بِنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عَرَبِيًّا» فسّره الحسن بن أبي الحسن فقال: أراد عليه السَّلام لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمدًا.
قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} الآية. اهـ.